تحليل: عبد الملك يعود بخطبة مسجّلة.. ما الذي يكشفه الغياب أكثر مما يكشفه الظهور؟

السبت 27 ديسمبر 2025 - الساعة 06:30 مساءً
المصدر : الرصيف برس - The Ideology Machine

 


ظهر عبد الملك الحوثي اليوم أمام الكاميرا للمرة الأولى منذ نوفمبر/ تشرين الثاني، منهياً غياباً دام سبعة أسابيع، وذلك في رسالة يبدو أنها مُسجَّلة مسبقاً بمناسبة عيد ديني، منفصلة تماماً عن الأحداث الراهنة التي حشدت عشرات الآلاف من الناس باسمه. 

 

وكان توقيت ظهوره ملحوظاً، إذ تزامن مع ذروة تحرّك جماهيري واسع في مناطق سيطرة الحوثيين احتجاجاً على تدنيس أحد المرشحين الأمريكيين للقرآن. واجتاحت المظاهرات المدارس والجامعات والوزارات والمناطق القبلية، فيما كان جهاز الرسائل الإعلامية في حالة نشاط مكثف. وقد غاب صوت “القائد الثوري” عن الساحة بشكل لافت… حتى اليوم.

 

ولم يستقبل الجمهور زعيماً يتفاعل مع اللحظة الراهنة، بل تلقى خطبة دينية مُسجَّلة مسبقاً، عامة ومنفصلة تماماً عن الأحداث الحالية، وهو ما يمثل خروجاً ملحوظاً عن نمط تصرّفه المعتاد.

 

• ما كان مفقوداً

 

كانت الخطبة دينية بالدرجة الأولى، عبارة عن خطاب عقائدي عن التقوى والإيمان والواجب الأخلاقي. أما الإشارات السياسية القليلة التي وردت فكانت قديمة: إدانة التطبيع مع إسرائيل، وانتقادات عامة للإمبريالية الأمريكية، وموقفه من استيلاء إسرائيل على مياه الأردن، وإيماءات خطابية كان بالإمكان توجيهها في أي وقت خلال العامين الماضيين. ولم يربط أي محتوى بالواقع الراهن لشهر ديسمبر/ كانون الأول 2025، وهو نمط غير مألوف بالنسبة لعبد الملك الحوثي.

 

ولم يذكر التدنيس الذي طال القرآن، والذي حشد الملايين، وهو الحدث الذي أثار أكبر المظاهرات منذ أشهر وسيطر على وسائل الإعلام الحوثية طوال ديسمبر/ كانون الأول. ولم يُشِر إلى الرد المؤسسي الذي وجهه مكتبه. ولم يُعبّر عن الحداد على (هيثم علي طباطبائي)، قائد حزب الله البارز، الذي قُتل في غارة جوية إسرائيلية على لبنان في 23 نوفمبر/ تشرين الثاني، وهو ما كان عادةً يتطلب تصعيداً خطابياً ضمن سردية “محور المقاومة”، خصوصاً بالنظر إلى الدور المبلغ عنه لطباطبائي في التنسيق بين حزب الله والحوثيين.

 

ولم يُناقش أيضاً أي تقدم للمجلس الانتقالي الجنوبي في حضرموت، رغم أسابيع من تأطير الإعلام الحوثي لعمليات المجلس على أنها مؤامرة إسرائيلية–إماراتية–أمريكية. كما لم يُشر إلى “مسودة الاتفاقية المسربة” التي تزعم وسائل الإعلام الحوثية أنها تكشف خطط الإمارات والسعودية لتقسيم البنية التحتية النفطية في جنوب اليمن. وهذا يوحي بأن الفيديو قد تم تسجيله قبل مقتل هيثم علي طباطبائي أو قبل الأحداث في جنوب البلاد.

 

علاوة على ذلك، لم يُذكر أي من قادته الذين نُعوا قبل يوم واحد من خطابه، بما في ذلك ثلاثة جنرالات كبار قُتلوا في عمليات عسكرية، وأقيمت لهم جنازات رسمية في صنعاء اليوم، وهو فقدان للقيادة العليا كان عادةً ما يستدعي إقراراً مباشراً من “القائد الثوري” نفسه.

 

ولم يُشر إلى السعودية إلا بشكل عام، رغم أسبوع كامل من مقالات الرأي التي صعّدت الخطاب المعادي للسعودية واستحضرت المظالم التاريخية. ولم يذكر أي شيء عن صفقة تبادل الأسرى التي احتفل بها الحوثيون عبر مؤسساتهم الإعلامية. 

 

كما لم يُشر إلى (ترامب)، الذي كانت عودته وتهديداته لفنزويلا قد تصدّرت الإعلام الحوثي ضمن سردية عن عودة الإمبريالية. وكان ذكره الوحيد لفنزويلا مجرد ادعاء عام بأن أمريكا تريد نفطها، متجاهلاً الحصار البحري الذي فرضه ترامب في 17 ديسمبر/ كانون الأول، ومطالبه الصريحة بأن “تعيد” فنزويلا مواردها، وتصريح (ستيفن ميلر) بأن نفط فنزويلا “ينتمي إلى واشنطن”، وكلها عناصر سبق أن استُخدمت في الإعلام الحوثي لدعم السردية المناهضة للإمبريالية.

 

ولا شيء من الأحداث الجارية. لا شيء تفاعلي. لا شيء يستدعي حضوره المباشر أو إصدار حكمه في الوقت الفعلي.

 

• عصا نوح

 

في القرآن، توفي سليمان وهو متكئ على عصاه. ولم يدرك الجن والمخلوقات العاملة تحت قيادته أنه قد مات؛ فقد واصلوا العمل معتقدين أنه لا يزال يراقبهم. فقط عندما أكلت إحدى المخلوقات العصا وانهار جسد سليمان، فهم الجن أن السلطة التي كانوا يطيعونها لم تعد حيّة. وكان النظام يعمل بناءً على مظاهر القيادة لا جوهرها.

 

هذه هي الصورة التي يثيرها ظهور عبد الملك الحوثي مجدداً.

فالخطبة التي أُلقيت اليوم لم تكن قيادة فعلية، بل كانت العصا، مسنودة، تحافظ على وهم هيكل قيادة متماسك. ويمكن أن يكون محتواها قد سُجِّل في أي وقت خلال الشهرين الماضيين، ولا يوجد دليل داخلي على أنها أُنتجت استجابةً لأي حدث جارٍ. إنها لا تعمل كأداة حكم فعلي، بل كدليل على الحياة، وطمأنة بصرية بأن الشخصية العليا لا تزال موجودة، على الأقل بطريقة تشغيلية محدودة.

لكن الحكم، بالمعنى الحقيقي، كان يستمر من دون حضوره.

 

• السيطرة، لا الأزمة

 

تشير هذه التنسيقات إلى أن الغياب كان مداراً ومخططاً له، وليس مفاجئاً أو ارتجالياً. فقد أُعدّت الخطبة قبل اختفائه، بما يكفي لتكون قابلة للنشر في أي وقت. غياب الذعر في الإعلام الحوثي، والهدوء المؤسسي، واستمرار العمليات بسلاسة، كلها دلائل على أن الأمر كان مخططاً له، وليس أزمة.

 

وقد قررت القيادة الحوثية أن الغياب الذي دام سبعة أسابيع أصبح عبئاً سياسياً. وكان من الضروري تقديم دليل بصري على وجود عبد الملك لمنع انتشار التكهنات. وقد أُعد المحتوى مسبقاً، وتم توقيت نشره عندما كانت آلية التعبئة تعمل بكامل طاقتها.

 

لم يكن هذا زعيماً يحاول استعادة السيطرة بشكل طارئ، بل كان نظاماً يستخدم أداة جاهزة: خطبة دينية عامة، خالية من أي إشارة للأحداث الجارية، صُمِّمت لتعمل كـ“فاصل أمني” يوقف القلق الإعلامي والسياسي. الرسالة نفسها ليست مهمة بقدر أهمية الصورة: عبد الملك، أمام الكاميرا، يؤدي دور القائد.

 

وأرجح التفسيرات هو تفسير طبي: تعافٍ بعد جراحة أو علاج يحدّ من ظهوره العام الطويل، لكنه يسمح بجلسات مسجّلة مسبقاً تحت السيطرة. والهيكل القيادي لـ“محور المقاومة” يتخذ قرارات محسوبة حول متى وكيف يظهر. إنهم يقتصدون في ظهوره، محافظين على ثقل رمزي، بينما يقللون المخاطر التشغيلية الناتجة عن كشف أي قيود أو ضعف.

 

ويشير هذا المستوى من السيطرة إلى أن النظام ليس في فوضى، بل يتكيف. والسؤال الآن: يتكيف مع ماذا بالتحديد؟

 

• ما يكشفه الغياب

 

حشد النظام الحوثي آلاف الأشخاص في مناطق سيطرته شمال اليمن، دون أي مشاركة مرئية لعبد الملك. وصدرت بيانات باسمه، وتداولت التوجيهات، وكان التنسيق المؤسسي سلساً. وتحركت المدارس والمكاتب الحكومية والشبكات القبلية ومنظمات المجتمع المدني بتناغم كامل. وعملت آلية التعبئة الأيديولوجية بكامل طاقتها.

 

وهذا يكشف لنا أمرين:

أولاً: النظام لم يعد بحاجة إلى مشاركته اللحظية ليعمل على نطاق واسع. والبنية التحتية مؤسسية بما فيه الكفاية، بحيث يمكن أن تستمر التعبئة، والرسائل، والحكم آلياً، أو تحت قيادة شخصيات تستمد سلطتها من قربها منه، دون الاعتماد على مشاركته الفعلية.

 

ثانياً: الظهور اليوم يشير إلى أن الغياب نفسه أصبح مشكلة. ليس من الناحية التشغيلية، بل من الناحية الرمزية. فكلما طالت مدة عدم ظهوره، زاد المجال للتكهنات: مشكلات صحية، نزاعات داخلية، مخاوف أمنية، فقدان السيطرة. وفي الأنظمة التي تستمد السلطة من شخصية واحدة، يخلق الغياب الطويل ثغرات كبيرة. وتعمل الخطبة المسجلة مسبقاً كأداة للحد من الأضرار الرمزية، وإعادة ضبط الصورة العامة، دون أن يضطر للتفاعل المباشر مع أي أمر قد يكشف عن محدودياته.

 

• آليات القيادة الغائبة

 

ما نشهده هو نموذج قيادة انتقل من السلطة الكاريزمية إلى التكرار البيروقراطي. فدور عبد الملك المبكر كان يتطلب حضوراً مرئياً، وكانت خطاباته أحداثاً بحد ذاتها، وكان إطاره الفكري والسياسي يشكّل التعبئة، وتركيبه العقائدي–السياسي يمنح اتساقاً لأيديولوجية الحركة. لكن هذه الوظائف أصبحت تدريجياً مؤسسية؛ وأضحى القائد قابلاً للاستبدال بنسخته المؤسسية.

 

ويؤكد ظهوره اليوم هذا التحول. فالمحتوى نفسه ليس مهماً؛ المهم أن النظام قرر أن غيابه طال بما يكفي ليثير التساؤلات، فقدم دليلاً بصرياً على استمرار القيادة. والخطبة المسجلة بمثابة عنصر تعبئة؛ يمكن استبدالها بأي خطبة دينية عامة وتؤدي الغرض نفسه.

 

هذه قيادة رمزية وليست جوهرية. وهي فعّالة، حتى تنكسر العصا. 

 

• ما يعنيه هذا للمستقبل

 

من المرجح أن يتكرر هذا النمط: غياب طويل يليه محتوى مسجل مسبقاً منخفض المخاطر، يطمئن الجماهير دون الحاجة إلى تفاعل مباشر في الوقت الفعلي. وستستمر القيادة التشغيلية في إدارة الحكم اليومي، والعمليات العسكرية، والتعبئة، إلى أن يكون جاهزاً للظهور والتعليق على الأحداث الواقعية.

 

وهذا لا يعني بالضرورة أزمة للحوثيين؛ فكثير من الأنظمة الاستبدادية تعمل بهذه الطريقة. وقد تعلّم النظام الحكم في غيابه.

والخطبة اليوم لم تكن عودة إلى القيادة الفعلية، بل كانت تأكيداً أن الغياب دائم في كل شيء إلا في المظهر. العصا ما زالت مسنودة، والجن يواصلون عملهم، والنظام سيستمر على هذا النحو حتى يلاحظ أحدهم أن العصا قد سقطت بالفعل.

لكن، في الوقت الحالي، يبقى السؤال: أين عبد الملك؟

111111111111111111111


جميع الحقوق محفوظة لدى موقع الرصيف برس