من بيان الدولة إلى بيان السلاح..قراءة سياسية ساخرة في لحظة انكشاف
الاحد 28 ديسمبر 2025 - الساعة 06:09 مساءً
ليس كل بيانٍ بيانًا..بعض البيانات تُكتب لملء الفراغ،وبعضها لتبرير القوة،وبعضها – نادرًا – يُكتب لأنه صادر عن دولة تعرف ماذا تريد، وماذا لا تريد، ومتى تتكلم ومتى تصمت.
البيان المصري الأخير حول اليمن كان من هذا النوع الأخير: هادئ، واضح، وحاسم بلا ضجيج. لم يسمِّ أطرافًا، لكنه سمّى المبادئ الأساسية: وحدة اليمن، سيادته، وسلامة أراضيه… وكررها مرتين، وكأن التذكير أصبح ضرورة في زمن تُدار فيه الأوطان بالنسيان، وتُختصر الدول في تغريدة أو غرفة عمليات.
في المقابل، جاء بيان المجلس الانتقالي الجنوبي عقب الغارات السعودية في حضرموت بلغة ميدان لا لغة دولة؛ حديث عن “بسط السيطرة” و”تفويض شعبي” و”المضي قُدمًا”، وكأن البيان ردّ عسكري على نص دبلوماسي، أو بيان عمليات كُتب بدل تقرير عسكري.
الفارق هنا ليس في الكلمات، بل في العقل السياسي:
دولة تتكلم بمنطق القانون،وقوة تتكلم بمنطق الأمر الواقع،والأمر الواقع – كما نعرف – لا يبني دولة، بل يطيل عمر الفوضى.
أما البيان السعودي، فبدا بيان إدارة أزمة أكثر منه بيان رؤية دولة:
تهدئة، ضبط نفس، إجراءات، دعوات عامة…لكن دون تعريف واضح لشكل اليمن أو مستقبله.
كأن اليمن ما يزال “ملفًا أمنيًا قيد المعالجة، لا وطنًا يحتاج مشروعًا سياسيًا نهائيًا.
وهنا يظهر الفارق بوضوح:
مصر وسلطنة عُمان تتكلمان بعقل الدولة،
بينما يُدار اليمن – حتى اللحظة – بعقل المقاول:خفض تكاليف، إدارة مخاطر، وتمديد عقد الصراع كلما اقترب الحل.
وفي قلب هذا المشهد، يطفو السؤال الذي يتداوله الشارع همسًا لا جهرًا:
هل هناك شرخ بين المصالح السعودية والإماراتية؟
الإجابة: نعم.
لكن ليس على طريقة الصراع العلني أو الانفجار الإعلامي.
السعودية ترى اليمن عمقًا أمنيًا وحدوديًا لا يحتمل التفكك،بينما تنظر الإمارات إليه كساحة نفوذ بحري وتجاري وأمني مرتبطة بالموانئ وخطوط الملاحة.
هذا ليس صراع وجود، بل تضارب مصالح داخل التحالف نفسه،اختلاف داخل الغرفة لا خارجها.
ولهذا يبدو السؤال الشعبوي:
“لماذا لا تواجه السعودية الإمارات مباشرة وتقطع رأس الأفعى؟”
سؤالًا خارج منطق الدول.
الدول لا تحارب شركاءها الاستراتيجيين، بل تحتوي خلافاتها وتديرها بالضغط غير المباشر ..صدام مباشر يعني تفجير الخليج، خسارة الغطاء الدولي، وفتح جبهة إقليمية لا رابح فيها..وهكذا تُدار الصراعات بالوكلاء… لا بالعواصم.
ومن هنا نفهم لماذا تُصفّى الحسابات على الأرض اليمنية.
كما شُنّت “عاصفة الحزم” تحت عنوان قمع التمدد الإيراني، تحولت اليمن لاحقًا إلى ساحة رسائل إقليمية مفتوحة:
مواجهة إيران في صنعاء لا في طهران،
وضبط الخلافات الخليجية في عدن وحضرموت لا في الرياض وأبوظبي.
اليمن، بحكم ضعفه وانقسامه، صار المساحة الأرخص لتبادل النفوذ دون كلفة سياسية مباشرة.
لكن، وهنا بيت القصيد،لا يمكن تبرئة الداخل اليمني من هذه المأساة.
فالشرعية اختزلت الدولة في فنادق،
والانتقالي اختزل القضية في سلاح،
والأحزاب اختزلت الوطن في بيانات،
فضاع اليمن بين “تفويض” لا يُقاس، و”شرعية” لا تحكم، و”قوى” لا تبني.
سياسيًا، اختلط التفويض الشعبي بفوهة البندقية.
اقتصاديًا، تحولت حضرموت من رئة وطنية إلى فاتورة صراع.
عسكريًا، تكاثرت التشكيلات حتى ذاب الجيش.
إعلاميًا، صار البيان ذخيرة، والكذبة مشروعًا ممولًا، والحقيقة ضحية بلا راعٍ.
السخرية المبكية أن كل طرف يدّعي حماية اليمن، بينما اليمن نفسه آخر من يُسأل.
كلهم يتكلمون باسمه،ولا أحد يتكلم له.
الخلاصة المؤلمة:
مصر لم تقل جديدًا، بل قالت ما كان يجب أن يُقال منذ سنوات..وما أغضب كثيرين ليس البيان، بل التذكير بأن اليمن – رغم كل ما جرى – ما يزال يُفترض أن يكون دولة لا ساحة.
اليمن لا يحتاج بيانات أقوى،بل دولة أقوى من البيانات..يحتاج صوتًا واحدًا،وجيشًا واحدًا،ورؤية لا تُكتب من فوهة بندقية.
والسؤال الذي يجب أن يُطرح بلا مواربة:
من يملك قرار إنهاء هذه الحرب فعلًا؟
من يكتب البيان…
أم من يحمل















